للنصيحة شأن عظيم في حياة الفرد والمجتمع، فهي أساس بناء الأمة، وعماد الدين وقوامه، وهي السياج الواقي من الفرقة والنزاع بين المسلمين؛ لأنها الدين كله، ولأن الدين كله نصح فالصلاة والصيام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبذل السلام وإحسان الكلام، كل ذلك نصح. قال ابن رجب يرحمه الله في شرح حديث الدين النصيحة: «إن النصيحة تشمل خصال الإسلام والإيمان والإحسان التي ذكرت في حديث جبريل عليه السلام وسمى ذلك كله ديناً»،
وللنصيحة آداب ينبغي التأدب بها ومراعاتها بعد الإخلاص لله تعالى، والرفق واللين للناصح، وأن تكون النصيحة سراً؛ لأن الناصح أمام الناس يولِّد ردود أفعال، وربما لا تقبل النصيحة، بل يزداد الأمر سوءاً، ولذلك فقد كان سلفنا الصالح يحرصون على النصح سراً، وقد أنشد الإمام الشافعي شعراً فقال: تَعمَّدْنِي بِنُصحِكَ في انْفِراَدِي وجَنبني النصِيحة في الجماعة فإن النصحَ بين الناسِ نوعٌ من التوبيخِ لا أرضى استِمَاعَهْ فإن خَالفْتَنيِ وعصيت قولي فلا تغضب إذا لم تُعْطَ طاعَةْ
وقال ابن حزم: وإذا نصحت فانصح سراً لا جهراً، وبتعريض لا تصريح، إلا إذا لم يفهم المنصوح تعريضك فلابد من التصريح. اختيار الأحوال ولابد من اختيار الأحوال والأزمنة المناسبة، فعلى الناصح أن يكون فطناً لبيباً في اختيار الأحوال والأزمنة المناسبة، وعليه أن يتحين الفرصة السانحة فاختيار الحال والزمان المناسبين من أكبر الأسباب لقبول النصيحة.
قال ابن مسعود ]: «إن للقلوب شهوةً وإقبالاً، وفترةً وإدباراً فخذوها عند شهوتها وإقبالها وذروها عند فترتها وإدبارها»، فهنيئاً لذلك الداعية الذي يعرف متى تُدبِر القلوب، ومتى تُقبِل فيحسن الإنكار ويجيد مخاطبة القلوب. رفق ولين وينبغي للناصح أن يتحلى بالرفق واللين في النصح كما يقول النبي [: «ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه»(رواه مسلم).
وليت الدعاة النصحاء والخطباء البلغاء يقتدون بالنبي [ في قصة الشاب الذي جاء إلى النبي [ يستأذنه في الزنا، فما كان منه [ إلا أن قام بنصحه بالرفق واللين، فعن أبي أمامه ]، أن غلاماً شاباً أتى النبيَّ [ فقال: يا نبيَّ الله، تأذن لي في الزنا؟ فصاح الناس به، فقال النبي [: «قربوه، ادْن»، فدنا حتى جلس بين يديه فقال النبي [: «أتحبه لأمك؟»، فقال: لا جعلني الله فداك! قال: «كذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم، أتحبه لابنتك؟»، قال: لا، جعلني الله فداك! قال: «كذلك الناس لا يحبونه لبناتهم، أتحبه لأختك؟»، قال: لا، جعلني الله فداك! قال: «كذلك الناس لا يحبونه لأخواتهم»، فوضع رسول الله [ يده على صدره وقال: «اللهم طهر قلبه واغفر ذنبه وحصن فرجه»، فلم يكن شيء أبغض إليه منه. (رواه أحمد وصححه الألباني في صحيحه رقم 370).
أنواع النصيحة وتكون النصيحة لله: في إخلاص الإيمان به وتوحيده وإخلاص العبادة له. والنصيحة للكتاب: العمل بما فيه والدفاع عنه ونشر مبادئه.
وتكون النصيحة للرسول [: بالاقتداء به وتصديقه. وتكون النصيحة للأئمة أيضاً: بطاعتهم فيما يوافق الحق، وما داموا على طريق الله وطريق رسوله [، وبإرشادهم إلى شرع الله وإخلاص النصح لهم وهدايتهم إن هم انحرفوا عن السبيل، فقد قيل: إنه لما تولى هارون الرشيد جلس للناس مجلساً عاماً، فدخل عليه بهلول «المجنون» فقال له: يا أمير المؤمنين، احذر جلساء السوء، واعتمد جليساً صالحاً يذكرك بمصالح خلقه إذا غفلت والنظر فيهم إذا لهوت، فإن هذا أنفع لك وللناس وأكثر في الأجر مما تأتي به من صوم وصلاة وقراءة وحج، إن الرجل كان يلقي الكلمة عند ذي السلطان فيعمل بها فيملأ الأرض فساداً. وقال [: «إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالاً فيهوي بها في النار سبعين خريفاً».
ولا تكن يا أمير المؤمنين كمن قال الله تعالى في حقه: وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ >206<}(البقرة)، فقال له: زدني، فقال: يا أمير المؤمنين: إن الله تعالى قد أقاد لك الناس وجعل أمرك فيهم مطاعاً، وكلمتك فيهم نافذة، وأمرك فيهم ماضياً، وما ذلك إلا لتحملهم على الإتيان بما أمر الله والانتهاء عما نهى الله عنه، وتعطي من هذا المال الأرملة واليتيم والشيخ الكبير وابن السبيل.. يا أمير المؤمنين، أخبرني فلان عن فلان عن رسول الله [ أنه قال: «إذا كان يوم القيامة، وجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، أحضر الملوك وغيرهم من ولاة أمور الناس فيقول لهم: «ألم أمكنكم من بلادي، وأطع لكم عبادي لا لجمع الأموال، وحشد الرجال، بل لتجمعوهم على طاعتي، وتنفذوا فيهم أمري ونهيي، وتعزوا أوليائي وتذلوا أعدائي وتنصروا المظلومين من الظالمين».. يا هارون، تفكر كيف يكون جوابك عما تُسأل عنه من أمور العباد في ذلك الموقف إذا حضرت ويداك مغلولتان إلى عنقك، وجهنم بين يديك والزبانية محيطة بك تنتظر ما يؤمر بك.. قال: فبكى هارون بكاءً شديداً، فقال له بعض الحاضرين: كدَّرت على أمير المؤمنين مجلسه، فقال لهم هارون: قاتلكم الله، إن المغرور من غررتموه، والسعيد من بعدتم عنه، ثم خرج من عنده.
صدق وإخلاص لقد أصبح الحاكم في أمسِّ الحاجة إلى من ينصحه بصدق وإخلاص، ولا يجد من حوله إلا مجموعة من المتملقين المتزلفين الذين يزينون له المحرمات، ولربما استعمله بعضهم لقضاء مآربه الخاصة. لقد طغت الأموال على الفعال في أيامنا هذه، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وأصبح الناصح غير منصوح في حد ذاته، بحيث يقف الرجل أمام الملأ فيحلل ويحرم ويوعظ ويوجِّه ويبشر ويحذر؛ فتذرف من أقواله الدموع، ثم تراه إذا فارق مجلسه فارق مبادئه وأقواله وخالفها بفعل الحرام؛ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ(البقرة:44).
اللهم إنا نسألك القيام بأمرك والبعد عن نهيك والعمل بما يقربنا منك يا أرحم الراحمين، اللهم إنا نعوذ بك من سخطك والنار، ونسألك رضاك والجنة يا ذا الجلال والإكرام.